اخبار مصر
نحو 100 كم تفصل بين غزة وبيت لحم، الواقعة جنوب القدس، وبها كنيسة المهد المبنية قبل 1500 عام فوق المغارة التي ولد فيها المسيح. وفي ساحة هذه الكنيسة، أُضيئت شجرة عيد الميلاد هذه الأيام للمرة الأولى منذ عامين على الحرب.
أمامها، وقف ماهر قنواتي (رئيس بلدية بيت لحم) ليقول: “من بيت لحم إلى المدن الفلسطينية الأخرى بما فيها غزة، نبعث رسالة إلى العالم أننا نريد السلام والحياة لنتمكن من مواصلة الحياة في فلسطين”.
وقبل عيدين، كانت رسالتهم مغايرة وحزينة، حيث قُرعت الأجراس وأُقيمت الصلوات دون أي احتفال. وظهر مجسم الطفل يسوع بين قطع أسمنتية ترمز للدمار وركام الحرب ولُفّ بالكوفية الفلسطينية.. وقتها قال منذر إسحق (القس في الكنيسة اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة) في حديث له: “في ظل الحرب، نعتقد لو ولد السيد المسيح اليوم سيولد تحت الركام في غزة تضامناً مع هؤلاء الأطفال”.
وربما تتشابه فصول تلك القصة إلى حد ما مع قصة ميلاد المسيح فعلاً فيما جرى لأطفال وعائلات غزة، خلال ثلاث أعياد مرت عليهم منذ بدء الحرب على القطاع، حيث القتل والنزوح والعودة والبقاء بحثاً عن السلام.
———————————
قبل أكثر من ألفي عام في المكان نفسه، قاد نجم متوهج، ضخم، يتحرك بخطى محددة، أفراداً من المجوس (كهنة حكماء من المشرق) إلى المغارة المولود بها المسيح. كانوا مؤمنين بأن هذا النجم يعني أن نبوءة “ملك اليهود” المنتظر قد تحققت، وهو دليلهم، فاتبعوه حتى وصلوا إلى هنا، إلى أورشليم (الاسم التاريخي لمدينة القدس).
في هذا الوقت كان حكم الملك هيرودس هناك في مرحلة توتر سياسي إلى حد كبير؛ كان رجلاً متوجساً وعجوزاً، يحكم قبضته على السلطة بالقوة، وعندما وصل المجوس بثيابهم الغريبة وأسئلتهم الصريحة عن “ملك اليهود المولود حديثاً”، اهتز القصر كله، فاستدعى “هيرودس” رجاله، مطالباً بمعرفة المكان الذي يُحكى عنه، وهو بيت لحم.
ثم نفذ خطته، واستقبل المجوس بودٍ زائف، طالباً منهم العودة وإخباره بمكان الطفل كي يذهب هو أيضاً ويسجد له. ولكن بعدما انصرفوا ولم يعودوا، أصدر مرسومه: “اقتُلوا جميع الأطفال الذكور في بيت لحم وكل القرى المجاورة ممن هم دون سن سنتين”.
والآن، من بين أكثر من 70 ألف شخص قُتلوا في غزة منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، كان هناك 1000 طفل رضيع (وفقاً لوزارة الصحة في غزة).

بين هؤلاء، فقد رامز الصوري، أحد سكان مدينة غزة، ثلاثة من أطفاله “سهيل ومجد وجولي” ضمن 13 شخصاً من عائلته خلال قصف كنيسة القديس برفيريوس في التاسع عشر من أكتوبر عام 2023.
يقف في المكان نفسه اليوم، ليقدم رثاءً إلى ابنته: “يا جولي، يا طفلتي، يا رؤاي الحلم في نسمي.. عامان مَرّا وقلبي ما استراح وجرحي لا ينام على وسادة الصبر، دمعي في وسادتي سيلاً.. فما زالت دموعي على خدي تنازلني”.
تزوغ عيناه بين أنحاء المكان، وهو ثالث أقدم كنيسة في العالم بعد كنيستي “المهد” في بيت لحم و”القيامة” في القدس. ويتذكر يوم “اختلطت دموعهم بدماء أبنائهم على عتبة هذه الكنيسة”، حسب وصفه، إثر الغارة التي استهدفتهم وراح ضحيتها نحو 17 شخصاً اتخذوا المكان ملجأً لهم.
يبدو “رامز” متماسكاً، لكنه لا يخفي أبداً مشاعره: “كيف لا نحزن، وقد غابت عن مقاعد الكنيسة وجوه هؤلاء الأطفال الصغيرة!.. هؤلاء ليسوا أرقاماً في تقارير!”.
وبالنسبة له، لم يختلف هذا العيد عن سابقيه، “فكل شئ حاضرَا في ذاكرته وداخله وكأن الوقت لم يمر”، إنما ما اختلف هو وقف حرب غزة بعد الاتفاق الذي جرى في شرم الشيخ، أكتوبر الماضي، حيث وقع الوسطاء (مصر وقطر وتركيا مع الولايات المتحدة) وثيقة وقف إطلاق النار.
———————————
وبينما اضطرت العائلة المقدسة إلى الفرار حين ظهر الملاك ليوسف النجار في حلمه وأمره: “قم، خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر”، بقي “رامز” مكانه ورفض ترك مدينة غزة والنزوح رغم أوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش الإسرائيلي، خلال أغسطس الماضي، لسكان المدينة. وشاركه في ذلك الكهنة والراهبات الكاثوليك والأرثوذكس. وأعلنت بطريركية الروم الأرثوذكس والبطريركية اللاتينية في القدس: “مغادرة المدينة والفرار إلى الجنوب بمثابة إعلان حُكم بالإعدام. سنستمر في رعاية جميع من سيبقون”.
في المقابل، نزح حوالي 110 آلاف فلسطيني من قطاع غزة (حتى منتصف عام 2024)، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، التي تشير إلى أن جميع سكان غزة تقريباً (حوالي 1.9 مليون شخص) نزحوا داخلياً مرات عديدة، لعدم وجود مأوى آمن والنقص الحاد في الطعام والمياه والخدمات الأساسية.

وهكذا قضى طوني المصري وزوجته “أمل” عيدهم أمام خيمة في منطقة المواصي غرب خان يونس. فالرجل البالغ من العمر 78 عاماً نزح لأول مرة خلال النكبة عام 1948 من مدينته “حيفا” إلى مخيمات اللاجئين في لبنان (مخيم ضبية)، قبل أن يستقر في غزة؛ ما جعله يقول: “هذه ليست المرة الأولى التي أفقد فيها منزلي وأحبائي”.
وفي مثل هذه الأيام قبل الحرب، كان “طوني” يزين شجرته، ويسافر إلى بيت لحم لزيارة أولاده وأحفاده، وكانت مظاهر الاحتفال جلية بالقطاع. ولكن الآن، يصف حاله قائلاً: “لا يوجد أحد هنا. سأجلس أنا وزوجتي وحدنا لنحتفل.. هذا أصعب شيء بالنسبة لي”.

———————————
لم يقطع رحلة نزوح العائلة المقدسة التي استمرت نحو 3 سنوات (حسب تقديرات كنسية) إلا نداءٌ إلهيٌّ آخر جاء ليوسف بالعودة من مصر: “مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي”. فسلكوا الاتجاه المعاكس لكنهم لم يأمنوا الذهاب إلى بيت لحم بل ساروا نحو الجليل، وتحديداً “الناصرة”.
وبالمثل، عاد نازحون إلى غزة بعد اتفاق وقف الحرب، وعاد من رحلوا نحو الجنوب إلى الشمال مرة أخرى، ليكتشفوا واقعاً مأساوياً ومنازل مدمرة بالكامل، ويجبروا على النزوح مرة ثانية إلى مكان آخر بالقطاع.
وفي هذه الأيام، أغرقت السيول خيمهم، وتسللت مياه الأمطار إلى الفراش والأغطية. وانهار عدد من المنازل المتصدعة بسبب المنخفض الجوي، فراح ضحية ذلك نحو 10 أشخاص، غير ثلاثة أطفال ماتوا من شدة البرد.

وعلى الرغم من أن وقف إطلاق النار خفف من القيود على دخول السلع، إلا أن الإمدادات لا تزال غير كافية، بحسب الأمم المتحدة، في حين أن “منظمة الصحة العالمية لاتزال تواجه تحديات كبيرة في توفير اللوازم المختبرية والطبية للكشف عن العدوى في ظل انتشار الأمراض”، حسبما ذكرت.
وسط ذلك، يحاول المسؤولون بكنيسة القديس بورفيريوس، حيث يلجأ العديد من الأسر، أن يخلقوا واقعاً آخر مفرحاً؛ فاجتمعت الأسر وأطفالها لصنع شجرة الميلاد واستخدام الكرتون والأوراق لتزيين المكان.

فبالنسبة لنحو 700 فرد من المسيحيين الباقين في غزة، لا توجد أشجار لتزيين منازلهم. ومنهم “مايكل” الذي يقول: “نحاول أن نسعد الأطفال، وفي الحقيقة لا فرحة حقيقية لنا منذ الحرب، لا نزال نتألم على من راح وعلى ما تم تدميره.. احتفالنا بالعيد يعني الصلاة فقط، نصلي من أجل السلام”، وهي الصلاة ذاتها التي حملها المسيح ضمن رسالته طوال نحو 33 عاماً قضاها على أرض فلسطين بعد العودة.
اقرا من المصدر
#من #قصة #ميلاد #المسيح. #كيف #مرت #ثلاث #أعياد #على #مسيحيي #غزة
اخبار مصر لحظة بلحظة
