اخبار مصر
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
كان مالكي المذهب، جامعًا لأنواع العلوم من تفسير ونحو وأصول وفقه على مذهب مالك. عاش في فترة كانت السيادة فيها لمذاهب أهل السنة وعقيدة أبي الحسن الأشعري مما أثر على اتجاهه الديني، إذ كان مالكي المذهب أشعري المعتقد، إنه الإمام العلامة ابن عطاءالله السكندري.
أجمع الفقهاء على أنه شاذلي الطريقة، فقد كان متصوفًا على طريقة أبي الحسن الشاذلي رحمة الله وأخذ طريقه عن أبي العباس المرسي، وقيل عنه: “وكان شاذلي الطريقة ينتمي للشيخ أبي الحسن الشاذلي وأخذ طريقه عن أبي العباس المرسي عن الشيخ أبي الحسن”. وسنستعرض في السطور الآتية الرحلة التي أتمها ابن عطاءالله وصنعت منه علامة مضيئة في تاريخ التصوف الإسلامي.
ولد أحمد بن محمد بن عبدالكريم بن عطاءالله في النصف الثاني من القرن السابع الهجري (658هــ)، ونشأ في مدينة الإسكندرية وأقام فيها وهو وأسرته ولذلك نسبوه إليها فقالوا: الإسكندري أو السكندري أو الإسكندراني، واشتهر بلقب ابن عطاء الله السكندري. وكان من أسرة اشتغلت بالعلوم الدينية، مما دفعه ليطلب علوم عصره الدينية من فقه وتفسير ونحو وأصول وغير ذلك. فكان يُطلق عليه: “كان جامعًا لأنواع العلوم من تفسير ونحو وأصول وفقه على مذهب مالك”.
وكان في بدايته يُنكِر على الصوفية ويتعصب لعلوم الظاهر حيث يقول: “ليس إلا أهل الظاهر وهؤلاء القوم – الصوفية – يدّعون أمورًا عظيمة ظاهر الشرع يأباها”. ويقال عليه في هذا الشأن أنه: “كان فقيهًا عالمًا ينكر على الصوفية”. إلا أن ابن عطاءالله بقى كذلك إلى أن ذهب إلى الإمام أبو العباس المرسي العالم الصوفي، وهناك زال إنكاره على الصوفية وصحب الشيخ المرسي وتلقى عنه الطريقة الشاذلية. وإلى جانب صحبته للشيخ مرسي، فقد تتلمذ على يد كبار علماء عصره في مختلف العلوم مما هيأ له ثقافة لغوية فقهية أصولية شاملة إلى جانب ثقافته الصوفية.
ومما يذكر أن ابن عطاءالله في هذه المرحلة لم يترك طلب العلوم الدينية فصحبة الصوفية لا تعني التجرد عن الاشتغال بالعلم أو بأي أمر دنيوي يقصد به وجه الله تعالى حيث يقول: “كنت سمعت الطلبة يقولون: من صحب المشايخ لا يجيء منه في العلم الظاهر شيء فشق على أن يفوتني العلم وشق على أن تفوتني صحبة الشيخ فأتيت الشيخ.. ولنا هنا أن نتذكر قول الإمام المرسي: “نحن إذا صحبنا تاجرًا ما نقول له اترك تجارتك، أو طالب علم لا نقول له اترك طلبك وتعال، ولكن نقر كل واحد فيما أقامه الله فيه”.
ثم رحل ابن عطاء الله إلى القاهرة، حيث اشتغل بالوعظ والتدريس أيضًا، وقد تولى التدريس في الجامع الأزهر، وقيل عنه: “كان يتكلم بالجامع الأزهر فوق كرسي بكلام يروح النفوس”. وقال عنه في هذا الشأن المناوي من كبار العلماء بالدين: “له اليد الطولى في العلوم الظاهرة والمعارف الباطنة إمام في التفسير والحديث والأصول، متبحر في الفقه له وعظ يعذب في القلوب ويحلو في النفوس. وكان رضي الله عنه قد تدرب بقواعد العقائد الشرعية وهذبته العلوم فاستدل بالمنطوق على المفهوم، فساد بذلك العصابة الصوفية فكان له من الرياسة شرف معلوم”.
وقد تنبأ له الشيخ المرسي بهذه المكانة الجليلة لتلميذه وارث علمه القائم على طريقته بعد وفاته، فقال: “الزم فو الله لئن لزمت لتكونن مفتيًا في المذهبين يريد مذهب أهل الشريعة أهل العلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العلم الباطن”. وهذه الشهادة أستحقها ابن عطاءالله لأنه تتلمذ على كبار علماء عصره في مختلف العلوم من فقه، وحديث، وتفسير، وأصول، ونحو، وغير ذلك مما بوأه هذه المكانة العلية في علوم أهل الظاهر إلى جانب علوم أهل الحقيقة التي تحصلت له بصحبته لشيخه أي العباس المرسي. وماذا عن مؤلفات ابن عطاءالله؟
عزيزي القارئ، بلغ عدد مؤلفات ابن عطاء الله عشرة كتب، وهي: “الحكم العطائية”، المناجاة العطائية، التنوير في إسقاط التدبير، لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس وشيخه الشاذلي أبي الحسن، تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس، القصد المجرد في معرفة الاسم المفرد، مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح، عنوان التوفيق في آداب الطريق، رسالة في أدب العلم، ترتيب السلوك.
وسنسلط الضوء على أشهر هذه المؤلفات، وكان أولى مؤلفات ابن عطاءالله والأشهر هو “الحكم العطائية” وهذا الكتاب مقاطع من كلام بليغ جامع لأوسع المعاني بأقل العبارات كلها مستخلص من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألفها ابن عطاءالله ثم عرضها على شيخه المرسي الذي تأملها ثم قال: “لثد أتيت في هذه الكراسة بمقاصد الإحياء والزيادة”. فهذا الكتاب إذن كتاب تصوف يتناول العائد ويدور في الكثير من حكمه على محور التوحيد وحماية المسلم من الشرك. كما أننا نجد أن كتب ابن عطاء الله ملئت بشرحها لا سيما التنوير في إسقاط التدبير ولطائف المنن اللذين هما كالشرح لجملة هذا الكتاب.
وقد كتب لهذه الحكم من الانتشار والقبول ما لم يكتب لغيرها، ولذلك جاء الدكتور زكي مبارك يقول: “كانت – الحكم العطائية – مما يدرسه العلماء في الأزهر الشريف في عصرنا هذا”، وذكر أنه كان يحضر هذه الدروس ويأنس بمعاني الحكم أشد الأنس. واللافت للنظر أيضًا أنه كثر شارحوها، وناظموها، والمهتمون بها.
وثاني أشهر هذه المؤلفات “المناجاة العطائية”، وهي دعاء موجه لله سبحانه وتعالى بأسلوب أدبي رفيع يحاكي في مستواه الحكم. وقيل عن هذا الكتاب: “كلها حكم عجيبة لها في القلوب تأثيرات غريبة لا سيما إن استعملت في الأسحار، فإنها تكسو القلوب جلابيب الأنوار”.
وثالثها “التنوير في إسقاط التدبير”، وقد بين ابن عطاءالله في هذا الكتاب مبدأ إسقاط التدبير كما يظهر من عنوانه وهو أبرز تعاليم الطريقة الشاذلية، وجعله مذهبًا كاملًا في التصوف، وقيل عنه: “المقصود بالتدبير عند ابن عطاءالله هو النظر في عواقب الأمور أو ما ستؤول إليه الأمور مستقبلًا وهذا من شأن الخالق وحده لا شأن أحد سواه وعلى الإنسان أن يعمل في اللحظة الحاضرة ليوفيها حقها ولا يتشاغل نفسيًا بالمستقبل بما يعوق عن العمل الإيجابي”. وبهذا يصبح المقصود بإسقاط التدبير هو إسقاط الشاغل النفسي بالمستقبل لأنه تضييع للوقت.
وفي عام 709هــ توفي ابن عطاءالله بمدرسة المنصورية التي أنشأها المنصور قلاوون الألفي بالقاهرة، فكان من عيون التصوف الإسلامي. وقد تتلمذ على يديه جملة من الفقهاء، والصوفية أشهرهم تقي الدين السبكي الامر الذي يدل على علو منزلته واستقامة طريقه.
وكان من كتّاب الأدب الصوفي، صيغت حكمه ومؤلفاته بأسلوب رشيق، وكلمات مأنوسة، صدرت من قلب نوراني شفيف، ونفس مؤمنة عارفة، فإذا هي نبضات تصل إلى القلب، وومضات تسري إلى الروح، وأطياف تتسامى بقارئها إلى عليين. وكم نحن بحاجة إلى أن نقدم هذا الزاد الروحي إلى الأجيال الجديدة، التي أوشكت أن تضل في بيداء الحياة، وكليّ ثقة أنهم سيجدو فيها بعضًا من عزاء، وطرفًا من شفاء.
اقرا من المصدر
#تنفيسة #رحلة #المالكي #الصوفي #الشاذلي
اخبار مصر لحظة بلحظة