الشيخ ياسر مدين يكتب: التشكيك فى السيرة النبوية (8) – كتاب الرأي

الشيخ ياسر مدين يكتب: التشكيك فى السيرة النبوية (8) – كتاب الرأي

اخبار مصر

طفنا خلال سبعة مقالات سابقة فى تاريخ تدوين السيرة النبوية بدءاً من عصر الصحابة الكرام إلى أن وصلنا إلى الحديث عن الجيل الرابع من علماء السيرة النبوية ومدوّنيها، وهو جيل محمد بن إسحاق بن يسار (ت 151هـ) وطبقته، انتهينا من الحديث عن محمد بن إسحاق وسيرته، وذكرنا منهجه فيها، وبيَّنا جهوده فى توثيق السيرة، وبيَّنا ما ورد عن الإمام مالك فى حق ابن إسحاق، وبيّنا أنه ليس المراد منه الطعن فى أمانته العلمية، وإنما لمآخذ تتصل بالآراء العقَديّة، وقد انتشرت سيرة ابن إسحاق بين الناس انتشاراً يدل على تلقى العلماء لها بالقبول، حتى صارت مرجعاً لمن كتب فى السيرة والتاريخ بعد ذلك، وهذا مما يبين معرفة العلماء بقدرها، وبما بذله صاحبها فيها من تحقيق وتدقيق.

وقد جاء بعد محمد بن إسحاق عالم كبير هو عبدالملك بن هشام بن أيوب، المعروف بابن هشام، وهو عالم نشأ بالبصرة، ثم جاء إلى مصر، وصار أحد علمائها، وكان مؤرخاً، وعالماً بالأنساب، وإماماً فى اللغة، حتى إنه اجتمع به الإمام الشافعى فى مصر، وتناشدا شيئاً كثيراً من أشعار العرب.

وقد روى ابن هشام سيرة ابن إسحاق عن تلميذه زياد بن عبدالله بن طفيل البكائى (ت 183هـ)، وقد سبق بيانُ معنى الرواية. ولم يقتصر دور ابن هشام على مجرد تلقى سيرة ابن إسحاق تلقياً علمياً كتابة وقراءة بسند صحيح متصل بصاحبها، وإنما قام ابن هشام بتهذيب سيرة ابن إسحاق، وقد حدثنا صاحب كتاب «المغازى الأولى ومؤلفوها» فبين أنه ترك «تاريخ أهل الكتاب من آدم إلى إبراهيم [عليهما السلام]، ولم يذكر من سلالة إسماعيل [عليه السلام] غير أجداد النبى المباشرين، وكذلك ترك الحكايات التى رواها ابن إسحاق وليس فيها ذكر النبى، صلى الله عليه وسلم، أو لا يشير إليها القرآن، ولا تحتوى على مناسبة أو شرح أو تأكيد أى أمر آخر مروى فى كتاب ابن إسحاق، وقد أجرى كل هذا الحذف ليختصر الكتاب».

إذن، عمد ابن هشام إلى اختصار الكتاب بحيث يكون مقصوراً على سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلية وما يتصل بها من سير أجداده المباشرين، والحق أنه لم يكن دوره مجرد الاختصار، وإنما قام بعمل جليل خدم سيرة سيدنا، رسول الله صلى الله عليه وسلم، التى جمعها بصورة علمية محمد بن إسحاق، إن ابن إسحاق بذل جهداً كبيراً فى توثيق السيرة، غير أنه لم يكن من العلماء بالشعر، والشعر عند العرب علم كبير له علماؤه ورواته الثقات المعروفون، وقد جمع ابن إسحاق فى سيرته مادة شعرية غير قليلة، فقام ابن هشام بخدمة جليلة لهذه السيرة، وهى أنه قام بعرض هذه الأشعار على العلماء بالشعر، واستبعد منها كل ما أنكروه، وهذا العمل الجليل يبين مدى اهتمام ابن هشام بقضية توثيق السيرة، فهو من علماء اللغة وله علم بأشعار العرب يمكنه من تمييز صحيح الشعر من باطله، لكنه آثر أن يكون عمله أكثر دقة، فلم ينفرد بالحكم على الأشعار التى ضمنها ابن إسحاق فى السيرة رغم علمه الذى يمكنه من هذا، وإنما آثر أن يكون الحكم صادراً من العلماء المعروفين بعلم الشعر، فاكتسب عمله بهذا وجاهة علمية لا تنكر.

وهذا يبين كيف كان علماؤنا يقومون بأدوار يكمل بعضها بعضاً. ولعل ابن إسحاق لم يقم بهذا لاعتباره أن الأشعار المروية ليست من صلب التأريخ، فجمع منها ما وجده، وترك ما وراء ذلك لقارئ السيرة الناظر فيها من العلماء، ثم تلقت الأمة كلها كتاب ابن هشام جيلاً بعد جيل حتى وصل إلينا بصورته الكاملة، ولو أننا عددنا ابن هشام من الجيل السادس من المصنفين فى السيرة باعتبار أن البكائى تلميذ ابن إسحاق من الجيل الخامس، فإن الأمة كلها صارت بذلك هى الجيل السابع الذى تلقى السيرة النبوية التى صنفها ابن هشام وتناقلتها عنه نقلاً متواتراً بلا شك وأى شىء أوثق من التواتر؟!



اقرا من المصدر

#الشيخ #ياسر #مدين #يكتب #التشكيك #فى #السيرة #النبوية #كتاب #الرأي

اخبار مصر لحظة بلحظة

Comments

No comments yet. Why don’t you start the discussion?

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *